فصل: باب الحج عن الغير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***


باب الإحصار

هو المنع والحبس، ومنه حصار الحصون والمعاقل إذا منعوا عن التصرف في مقاصدهم وأمورهم، والحصور‏:‏ الممنوع عن النساء‏.‏ وفي الشرع‏:‏ المنع عن المضي في أفعال الحج بموانع نذكرها إن شاء الله تعالى ‏(‏المحرم إذا أحصر بعدو أو مرض أو عدم محرم أو ضياع نفقة، يبعث شاة تذبح عنه في الحرم، أو ثمنها ليشتري بها ثم يتحلل‏)‏ والأصل في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ والنبي عليه الصلاة والسلام أحصر هو وأصحابه عام الحديبية حين أحرموا معتمرين فصدهم المشركون عن البيت، فصالحهم عليه الصلاة والسلام وذبح الهدي وتحلل ثم قضى العمرة من قابل‏.‏ قالوا‏:‏ وفيهم نزلت الآية، فكل من أحرم بحجة أو عمرة ثم منع من الوصول إلى البيت فهو محصر، ويستوي في ذلك جميع ما ذكرنا من الموانع، لأن التحلل قبل أوانه إنما شرع دفعا للحرج الناشئ من بقائه محرما، وهذا المعنى يعم جميع ما ذكرنا من الموانع، وكذلك ما في معناها كضلال الراحلة ومنع الزوج والسيد إذا وقع الإحرام بغير أمرهما؛ ومن قال إن الإحصار يختص بالعدو فهو مردود بالكتاب‏.‏

قال الكسائي وأبو عبيدة‏:‏ ما كان من مرض أو ذهاب نفقة يقال منه أحصر فهو محصر؛ وما كان من حبس عدو أو سجن يقال حصر فهو محصور؛ ونقل بعضهم إجماع أئمة اللغة على هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام حصر بالعدو، فعلمنا أن المراد ما يمنع من المضي والوصول إلى البيت‏.‏

وقوله‏:‏ في الحرم إشارة إلى أنه لا يجوز خارج الحرم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ومحله الحرم، لأن الهدي ما عرف قربة إلا بمكان مخصوص أو زمان مخصوص، والزمان قد انتفى فتعين المكان، ولأنه لو جاز ذبحه حيث أحصر لكان محله فلا تبقى فائدة في قوله حتى يبلغ‏.‏ وما روي أنه عليه الصلاة والسلام ذبح بالحديبية حين أحصر بها، فالحديبية بعضها من الحرم، فيحمل ذبحه عليه الصلاة والسلام فيه توقيفا بين الكتاب والسنة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز ذبحه قبل يوم النحر‏)‏ وقالا‏:‏ لا كدم المتعة والقران‏.‏ وجوابه أنه دم جناية لتحلله قبل أوانه والجنايات لا تتوقف بخلاف المتعة والقران فإنهما دم نسك، ولأن التأقيت بالزمان زيادة على النص، فلا يجوز؛ ولو عجز عن الذبح لا يتحلل بالصوم ويبقى محرما حتى يذبح عنه أو يزول المانع فيأتي مكة ويتحلل بأفعال العمرة، ولو صبر حتى زال المانع ومضى إلى مكة وتحلل بالأفعال لا هدي عليه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والقارن يبعث شاتين‏)‏ لأنه يتحلل عن إحرامين، وقد أدخل النقص على كل واحد منهما‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا تحلل المحصر بالحج فعليه حجة وعمرة‏)‏ روي ذلك عن عمر وابن مسعود، ولأن الحجة تجب بالشروع فيها؛ وأما العمرة فلأنه في معنى فائت الحج، فيتحلل بأفعال العمرة، وقد عجز فيجب قضاؤها ‏(‏وعلى القارن حجة وعمرتان‏)‏ حجة وعمرة لما ذكرنا، وعمرة لصحة الشروع فيها ‏(‏وعلى المعتمر عمرة‏)‏ لأن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه لما أحصروا بالحديبية عن المضي في العمرة وتحللوا قضوها حتى سميت عمرة القضاء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن بعث ثم زال الإحصار فإن قدر على إدراك الهدي والحج لم يتحلل ولزمه المضي‏)‏ لأنه قدر على الأصل قبل تمام الخلف ‏(‏وإن قدر على أحدهما دون الآخر تحلل‏)‏ أما إذا قدر على الهدي دون الحج فلا فائدة في المضي؛ وأما بالعكس القياس أن لا يتحلل لقدرته على الأصل، والأفضل أن لا يتحلل ويمضي ويأتي بأفعال الحج ليأتي به على الوجه الأكمل، لكن استحسنوا وجوزوا له التحلل لأنه لما عجز عن إدراك الهدي على وجه لا يضمنه الذابح صار كأنه قد ذبح فيتحلل، ولأن الخوف على المال كالخوف على النفس، ولو خاف على النفس تحلل، فكذا على المال‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن أحصر بمكة عن الوقوف وطواف الزيارة فهو محصر‏)‏ لما بينا ‏(‏وإن قدر على أحدهما فليس بمحصر‏)‏ لأنه إن قدر على الوقوف فقد أمن فوات الحج، وإن قدر على الطواف يصبر حتى يفوته الحج، ثم يتحلل بأفعال العمرة ولا دم عليه‏.‏ وعن أبي حنيفة أنه ليس لأهل مكة إحصار، لأن الدار دار الإسلام، بخلاف عام الحديبية حين أحصر عليه الصلاة والسلام‏.‏

باب الحج عن الغير

الأصل فيه حديث الخثعمية، وهو ما روي أن امرأة من خثعم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفيجزيني أن أحج عنه‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أما كان يقبل منك»‏.‏ ‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، قال‏:‏ «فالله أحق أن يقبل»‏.‏ فدل ذلك على جواز الحج عن الغير عند العجز، وأنه يقع عن المحجوج عنه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز إلا عن الميت، أو عن العاجز بنفسه عجزا مستمرا إلى الموت‏)‏ ولا يجوز عن القادر، لأن الحج عبادة بدنية وجبت للابتلاء، فلا تجري فيها النيابة، لأن الابتلاء بإتعاب البدن وتحمل المشقة، فيقع الفعل عن الفاعل إلا أنه يسقط الحج عن الآمر فيما ذكرنا، لأنه سبب لحصول الحج بالاتفاق، فأقام الشرع السبب مقام المباشرة في حق المأيوس نظرا له كالفدية في باب الصوم في حق الشيخ الفاني، ويشترط دوام العجز إلى الموت كالفدية أيضا، لأنه قدر وجب عليه بنفسه‏.‏ وعن محمد يقع عن الحاج لأنها عبادة بدنية، وللآمر ثواب النفقة‏.‏ وقال في المحيط‏:‏ يسقط عن الآمر حجه ويقع عن المأمور تطوعا، والمذهب المعتمد عليه وقوعه عن المحجوج عنه لما روينا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن حج عن غيره ينوي الحج عنه‏)‏ لأن الأعمال بالنيات، والأصل أن كل عامل يعمل لنفسه، فلا بد من النية لامتثال الأمر، ولأنه عبادة تجري فيها النيابة وهي غير موقتة، فجاز أن تقع عن غير من وجب عليه فينوي عنه ليقع عن الآمر ‏(‏ويقول‏:‏ لبيك بحجة عن فلان‏)‏ ولو لم ينو جاز لأنه تعالى مطلع على السرائر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز حج الصرورة والمرأة والعبد‏)‏ لوجود أفعال الحج والنية عن الآمر كغيرهم، والصرورة‏:‏ الذي لم يحج عن نفسه، والنبي عليه الصلاة والسلام جوز حج الخثعمية عن أبيها من غير أن يسألها هل حجت عن نفسها أم لا، ولو كان لسأله تعليما وبيانا؛ والأولى أن يختار رجلا حرا عاقلا بالغا قد حج، عالما بطريق الحج وأفعاله، ليقع حجه على أكمل الوجوه ويخرج به عن الخلاف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ودم المتعة والقران والجنايات على المأمور‏)‏ أما دم المتعة والقران فلأنه وجب شكرا حيث وفق لأداء النسكين، وهو الذي حصلت له هذه النعمة؛ وأما دم الجنايات فلأنه هو الجاني ‏(‏ودم الإحصار على الآمر‏)‏ لأنه هو الذي ورطه فيه فيجب عليه خلاصه منه‏.‏ وإن حج عن ميت ففي مال الميت‏.‏ ويعتبر من جميع المال لأنه يجب عليه خلاصه فصار دينا عليه‏.‏ وعن أبي يوسف أنه على الحاج لأنه وجب ليتحلل فيخلص عن ضرر امتداد الإحرام‏.‏ وجوابه ما ذكرنا من أنه هو الذي أوقعه فيه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن جامع قبل الوقوف ضمن النفقة‏)‏ لأنه مأمور بالحج الصحيح، وهذا فاسد فقد خالف الأمر ‏(‏وعليه الدم‏)‏ لأن الجماع فعله، وإن فاته الحج لمرض أو حبس أو هرب المكاري أو ماتت الدابة، فله أن ينفق من مال الميت حتى يرجع إلى أهله‏.‏ وعن محمد في نوادر ابن سماعة أن له نفقة ذهابه دون إيابه‏.‏ وفي قاضيخان‏:‏ لو قطع الطريق على المأمور وقد أنفق بعض المال فمضى في الحج وأنفق من مال نفسه وقع الحج عن نفسه، وإن بقي في يده شيء من مال الميت فأنفق منه وقع عن الميت، وإن رجع وأنفق على نفسه من مال الميت لم يضمن إذا رجع الناس‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وما فضل من النفقة يرده إلى الوصي أو الورثة أو الآمر‏)‏ لأنه لم يملكه ذلك وإنما أعطاه ليقضي الحج فما فضل يرده إلى مالكه، ولأنه لم يستأجره على ذلك ليملك الأجرة لأنه لا يصح الإجارة عليه، وسيأتيك في الإجارات إن شاء الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن أوصى أن يحج عنه فهو على الوسط وهو ركوب الزاملة‏)‏ لأنه أعدل الأمور؛ ومن مات وعليه حجة الإسلام ولم يوصّ لا يجب على الوارث أن يحج عنه، لأن الحج عبادة فلا تتأدى إلا بنفسه حقيقة أو حكما بالاستخلاف، وقضية هذا أنه لا يسقط عنه لو حج عنه غيره بغير أمره، إلا أنا قلنا لو حج الوارث عنه أو أحج سقط عنه استحسانا لحديث الخثعمية‏.‏

ولما روي أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله إن أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها‏؟‏ قال‏:‏ «نعم» قال‏:‏ ‏(‏ويحجون عن الميت من منزله‏)‏ لأنه المتعارف، وكما لو كان حيا فحج، وكذلك إذا مات في طريق الحج فأوصى‏.‏ وقالا‏:‏ يحج عنه من حيث مات، وكذلك لو مات المأمور يحج عنه من منزله وعندهما حيث بلغ‏.‏ لهما أن خروجه من بلده معتد به غير ساقط بالاعتبار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 100‏]‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من مات في طريق الحج كتبت له حجة مبرورة في كل سنة»‏.‏ ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث»‏.‏ الحديث، ولأن الحج لما لم يتصل بالخروج لم يبق وسيلة إليه فلا يعتد به عن حجته، وإن حصل الثواب بوعد الله ورسوله ‏(‏فإن لم تبلغ النفقة فمن حيث تبلغ‏)‏ استحسانا، لأن قصده سقوط الفرض، فإذا لم يمكن على الكمال فبقدر الإمكان، وإذا بلغت الوصية أن يحج راكبا فليس لهم أن يحجوا مشاة، وإن بلغت ماشيا من بلده وراكبا من الطريق قال محمد‏:‏ يحج راكبا من حيث تبلغ، لأن الله تعالى إنما أوجب الحج راكبا‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة‏:‏ أيهما شاء فعل، لأن في كل واحد منهما قصورا من وجه فيتخير، فإن رجع المأمور وقال منعت، وقد أنفق في رجوعه من مال الميت وكذبه الورثة أو الوصي ضمن، إلا أن يشهد له الظاهر بأن يكون مشهورا، وإن ادعى الحج وكذباه فالقول قوله، وإن أقاما البينة أنه كان يوم النحر بالكوفة لم تقبل، فإن قامت على إقراره أنه لم يحج قبلت؛ وإن كان للميت غريم فأمر أن يحج عن الميت بماله عليه، فادعى أنه حج لم تقبل إلا ببينة‏.‏

باب الهدي

وهو اسم لما يهدى إلى الحرم ويذبح فيه ‏(‏وهو من الإبل والبقر والغنم‏)‏ اعتبارا بالضحايا»‏.‏ وسئل عليه الصلاة والسلام عن الهدي فقال‏:‏ «أدناه شاة»‏.‏ وأهدى عليه الصلاة والسلام مائة بدنة، والبقرة كالبدنة ولا خلاف في ذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجزئ ما دون الشيء إلا الجذع من الضأن‏)‏ لأنها قربة تتعلق بإراقة الدم فيعتبر بالضحايا، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ضحوا بالثنايا إلا أن يعسر عليكم، فاذبحوا الجذع من الضأن» قال‏:‏ ‏(‏ولا يذبح هدى التطوع والمتعة والقران إلا يوم النحر ويأكل منها‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكلوا منها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 58‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ليقضوا تفثهم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏ وذلك يكون في أيام النحر، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام ساق مائة بدنة في حجة الوداع ذبح منها ثلاثا وستين بيده، وذبح علي رضي الله عنه الباقي ثم أمر أن يؤخذ بضعة من كل بدنة فوضعت في قدر ثم أكلا من لحمها وحسوا من مرقها‏.‏ وروى أنس أنه كان قارنا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويذبح بقية الهدايا متى شاء، ولا يأكل منها‏)‏ لأنها جنايات وكفارات فلا تتوقت بوقت ومصرفها الفقراء، والأولى تعجيلها لينجبر ما حصل من النقص في أفعاله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يذبح الجميع إلا في الحرم‏)‏ قال تعالى في جزاء الصيد‏:‏ ‏{‏هديا بالغ الكعبة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ وفي دم الإحصار ‏{‏حتى يبلغ الهدي محله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ولأن الهدي ما عرف قربة إلا في مكان معلوم وهو الحرم‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «منى كلها منحر، وفجاج مكة كلها منحر» قال‏:‏ ‏(‏والأولى أن يذبح بنفسه إن كان يحسن الذبح‏)‏ لما روينا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولأنها قربة، فالأولى أن يفعلها بنفسه إلا أن لا يحسن فيوليها غيره، وينبغي أن يشهدها إن لم يذبحها بنفسه‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يا فاطمة قومي فاشهدي ضحيتك، فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها» قال‏:‏ ‏(‏ويتصدق بجلالها وخطامها، ولا يعطى أجرة القصاب منها‏)‏ بذلك أمر عليه الصلاة والسلام عليا رضي الله عنه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تجزئ العوراء ولا العرجاء التي لا تمشي إلى المنسك، ولا العجفاء التي لا تنقى‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تجزئ في الضحايا أربعة‏:‏ العوراء البيّن عورها، والعرجاء البيّن عرجها، والمريضة البيّن مرضها، والعجفاء التي لا تنقى»‏.‏ أي لا نقى لها وهو المخ‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا مقطوعة الأذن، ولا العمياء‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «استشرفوا العين والأذن»‏.‏ أي تأملوا سلامتهما ‏(‏ولا التي خلقت بغير أذن‏)‏ لفوات عضو كامل ‏(‏ولا مقطوعة الذنب‏)‏ لما بينا ‏(‏وإن ذهب البعض إن كان ثلثا فما زاد لا يجوز، وإن نقص عن الثلث يجوز‏)‏ لأن الثلث كثير بالنص، وفي رواية الربع لقيامه مقام الكل كما في مسح الرأس، وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ إن كان أقل من النصف يجوز، لأن الحكم للغالب‏.‏ وفي النصف عن أبي يوسف روايتان‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتجوز الجماء والخصي والثولاء والجرباء‏)‏ أما الجماء فلأن القرن لا يتعلق به مقصود؛ وأما الخصي فلأنه عليه الصلاة والسلام ضحى بكبشين أملحين موجوءين، ولأن لحمه يكون أطيب؛ وأما الثولاء فالمراد التي تعتلف حتى لو كانت لا تعتلف لا يجوز لأنه يخل بالمقصود؛ وأما الجرباء فلأن الجرب في الجلد؛ أما اللحم الذي هو مقصود لا نقصان فيه حتى لو هزلت بأن وصل الجرب إلى اللحم لا يجوز‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يركب الهدي إلا عند الضرورة‏)‏ لأن في ركوبها استهانة بها وتعظيمها واجب‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 32‏]‏ والتقوى واجب فيكون التعظيم واجبا وحالة الضرورة مستثناة لما روي «أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يسوق بدنة فقال‏:‏ اركبها ويلك، قال‏:‏ يا رسول الله إنها بدنة، قال‏:‏ اركبها ويلك»‏.‏ قالوا‏:‏ كان مجهودا فأمره بالركوب للضرورة ‏(‏فإن نقصت بركوبه ضمنه وتصدق به‏)‏ لأنه بدل جزئها، وكذلك إذا نقصت من الحمل عليها لما بينا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن كان لها لبن لم يحلبها‏)‏ لأنه جزء منها، ولا يتصدق به قبل بلوغ المحل، وينضح ضرعها بالماء البارد ليذهب اللبن؛ قالوا‏:‏ وهذا إذا قرب من وقت الذبح، فأما إذا كان بعيدا حلبها دفعا للضرر عنها، ويتصدق به لأنه جزء من الهدي، وإن استهلكه تصدق بقيمته، وإن اشترى هديا فولد عنده ذبح الولد معه، وإن شاء تصدق به، لأن للولد حكم الأم على ما عرف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن ساق هديا فعطب في الطريق، فإن كان تطوعا فليس عليه غيره‏)‏ لتعينه بالنية وقد فات، وينبغي أن يذبحها ويصبغ نعلها‏:‏ أي قلادتها بدمها ويضرب به صفحة سنامها، ولا يأكل منها هو ولا الأغنياء، بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية الأسلمي، وليعلم الناس أنه للفقراء دون الأغنياء ‏(‏وإن كان واجبا صنع به ما شاء‏)‏ لأنه لما خرج عما عينه عاد ملكا له فيصنع به ما شاء ‏(‏وعليه بدله‏)‏ لأن الواجب باق في ذمته‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويقلد هدي التطوع والمتعة والقران دون غيرها‏)‏ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قلد هداياه وكانت تطوعا، ولأنه نسك فيليق به الإظهار، والمراد بالهدي هنا البدن؛ أما الغنم فلا يقلدها لعدم جريان العادة؛ وأما بقية الهدايا فلأنها جنايات واللائق فيها الستر، ودم الإحصار وجب للتحلل قبل أوانه فكان جناية‏.‏

فصل ‏[‏زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم‏]‏

ولما جرى الرسم أن الحاج إذا فرغوا من مناسكهم وقفلوا عن المسجد الحرام قصدوا المدينة زائرين قبر النبي صلى الله عليه وسلم، إذ هي من أفضل المندوبات والمستحبات، بل تقرب من درجة الواجبات، فإنه صلى الله عليه وسلم حرض عليها وبالغ في الندب إليها فقال‏:‏ «من وجد سعة ولم يزرني فقد جفاني»‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من زار قبري وجبت له شفاعتي»‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي»‏.‏ إلى غير ذلك من الأحاديث، ثم رأيت أكثر الناس غافلين عن آدابها ومستحباتها جاهلين بفروعها وجزئياتها، أحببت أن أذكر فيها فصلا عقيب المناسك من هذا الكتاب أذكر نبذا من الآداب فأقول‏:‏ ينبغي لمن قصد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر الصلاة عليه، فقد جاء في الحديث أنه يبلغه ويصل إليه، فإذا عاين حيطان المدينة يصلي عليه ويقول‏:‏ اللهم هذا حرم نبيك، فاجعله وقاية لي من النار، وأمانا من العذاب وسوء الحساب، ويغتسل قبل الدخول أو بعده إن أمكنه، ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه فهو أقرب إلى التعظيم، ويدخلها متواضعا عليه السكينة والوقار ويقول‏:‏ بسم الله، وعلى ملة رسول الله، رب أدخلني مدخل صدق إلى آخر الآية، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد واغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك؛ ثم يدخل المسجد فيصلي عند منبره صلى الله عليه وسلم ركعتين، يقف بحيث يكون عمود المنبر بحذاء منكبه الأيمن، فهو موقفه صلى الله عليه وسلم، وهو بين قبره ومنبره‏.‏

قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي»‏.‏ ثم يسجد شكرا لله تعالى على ما وفقه ويدعو بما أحب؛ ثم ينهض فيتوجه إلى قبره صلى الله عليه وسلم، فيقف عند رأسه صلى الله عليه وسلم مستقبلا للقبلة، يدنو منه قدر ثلاثة أذرع أو أربعة، ولا يدنو منه أكثر من ذلك، ولا يضع يده على جدار التربة فهو أهيب وأعظم للحرمة، ويقف كما يقف في الصلاة، ويمثل صورته الكريمة البهية صلى الله عليه وسلم كأنه نائم في لحده عالم به يسمع كلامه، قال صلى الله عليه «من صلى عليّ عند قبري سمعته»‏.‏ وفي الخبر»‏.‏ أنه وكل بقبره ملك يبلغه سلام من سلّم عليه من أمته» ويقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا صفي الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا نبي الرحمة، السلام عليك يا شفيع الأمة، السلام عليك يا سيد المرسلين، السلام عليك يا خاتم النبيين، السلام عليك يا مزمل، السلام عليك يا مدثر، السلام عليك يا محمد، السلام عليك يا أحمد، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، جزاك الله عنا أفضل ما جزى نبيا عن قومه، ورسولا عن أمته؛ أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وأوضحت الحجة، وجاهدت في سبيل الله، وقاتلت على دين الله حتى أتاك اليقين، فصلى الله على روحك وجسدك وقبرك صلاة دائمة إلى يوم الدين؛ يا رسول الله نحن وفدك وزوار قبرك، جئناك من بلاد شاسعة، ونواح بعيدة، قاصدين قضاء حقك والنظر إلى مآثرك، والتيامن بزيارتك، والاستشفاع بك إلى ربنا، فإن الخطايا قد قصمت ظهورنا، والأوزار قد أثقلت كواهلنا، وأنت الشافع المشفع، الموعود بالشفاعة والمقام المحمود، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏ وقد جئناك ظالمين لأنفسنا، مستغفرين لذنوبنا، فاشفع لنا إلى ربك، واسأله أن يميتنا على سنتك، وأن يحشرنا في زمرتك، وأن يوردنا حوضك، وأن يسقينا كأسك غير خزايا ولا نادمين، الشفاعة الشافعة يا رسول الله، يقولها ثلاثا ‏{‏ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 10‏]‏ الآية، ويبلغه سلام من أوصاه فيقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله من فلان ابن فلان، يستشفع بك إلى ربك فاشفع له ولجميع المسلمين، ثم يقف عند وجهه مستدبر القبلة، ويصلي عليه ما شاء‏.‏

ويتحول قدر ذراع حتى يحاذي رأس الصديق رضي الله عنه ويقول‏:‏ السلام عليك يا خليفة رسول الله، السلام عليك يا صاحب رسول الله في الغار، السلام عليك يا رفيقه في الأسفار، السلام عليك يا أمينه على الأسرار، جزاك الله عنا أفضل ما جازى إماما عن الأمة نبيه، ولقد خلفته بأحسن خلف، وسلكت طريقه ومنهاجه خير مسلك، وقاتلت أهل الردة والبدع، ومهدت الإسلام، ووصلت الأرحام، ولم تزل قائلا الحق، ناصرا لأهله حتى أتاك اليقين، فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ اللهم أمتنا على حبه ولا تخيب سعينا في زيارته برحمتك يا كريم، ثم يتحول حتى يحاذي قبر عمر رضي الله عنه، فيقول‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا مظهر الإسلام، السلام عليك يا مكسر الأصنام، جزاك الله عنا أفضل الجزاء، ورضي عمن استخلفك، فلقد نصرت الإسلام والمسلمين حيا وميتا، فكفلت الأيتام، ووصلت الأرحام، وقوي بك الإسلام، وكنت للمسلمين إماما مرضيا، وهاديا مهديا، جمعت شملهم، وأغنيت فقيرهم، وجبرت كسرهم، فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته‏.‏ ثم يرجع قدر نصف ذراع فيقول‏:‏ السلام عليكما يا ضجيعي رسول الله ورفيقه ووزيريه ومشيريه والمعاونين له على القيام في الدين، والقائمين بعده بمصالح المسلمين، جزاكما الله أحسن جزاء، جئنا كما نتوسل بكما إلى رسول الله ليشفع لنا ويسأل ربنا أن يقبل سعينا، ويحيينا على ملته، ويميتنا عليها، ويحشرنا في زمرته؛ ثم يدعو لنفسه ولوالديه ولمن أوصاه بالدعاء ولجميع المسلمين؛ ثم يقف عند رأسه صلى الله عليه وسلم كالأول ويقول‏:‏ اللهم إنك قلت وقولك الحق‏:‏ ‏{‏ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏ الآية، وقد جئناك سامعين قولك طائعين أمرك، مستشفعين بنبيك إليك، ربنا اغفر لنا ولأبائنا ولأمهاتنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان الآية ‏{‏ربنا آتنا في الدنيا حسنة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 201‏]‏ الآية ‏{‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 180‏]‏ إلى آخر السورة، ويزيد في ذلك ما شاء وينقص ما شاء، ويدعو بما يحضره من الدعاء ويوفق له إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم يأتي أسطوانة أبي لبابة التي ربط نفسه فيها حتى تاب الله عليه وهي بين القبر والمنبر، ويصلي ركعتين ويتوب إلى الله تعالى ويدعو بما شاء؛ ثم يأتي الروضة وهي كالحوض المربع، وفيها يصلي أمام الموضع اليوم، فيصلي فيها ما تيسر له، ويدعو ويكثر من التسبيح والثناء على الله تعالى والاستغفار؛ ثم يأتي المنبر فيضع يده على الرمانة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده عليها إذا خطب ليناله بركة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصلي عليه ويسأل الله ما شاء، ويتعوذ برحمته من سخطه وغضبه؛ ثم يأتي الأسطوانة الحنانة، وهي التي فيها بقية الجذع الذي حنّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين تركه وخطب على المنبر، فنزل صلى الله عليه وسلم فاحتضنه فسكن، ويجتهد أن يحيي ليله مدة مقامه بقراءة القرآن، وذكر الله تعالى‏.‏

والدعاء عند المنبر والقبر وبينهما سرا وجهرا‏.‏ ويستحب أن يخرج بعد زيارته صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، فيأتي المشاهد والمزارات، خصوصا قبر سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه؛ ويزور في البقيع قبة العباس وفيها معه الحسن بن علي وزين العابدين وابنه محمد الباقر وابنه جعفر الصادق، وفيه أمير المؤمنين عثمان، وفيه إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وجماعة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعمته صفية وكثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، ويصلي في مسجد فاطمة رضي الله عنها بالبقيع؛ ويستجب أن يزور شهداء أحد يوم الخميس، ويقول‏:‏ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويقرأ آية الكرسي وسورة الإخلاص، ويستحب أن يأتي مسجد قباء يوم السبت، كذا ورد عنه عليه الصلاة والسلام ويدعو‏:‏ يا صريخ المستصرخين، يا غياث المستغيثين، يا مفرج كرب المكروبين، يا مجيب دعوة المضطرين، صل على محمد وآله، واكشف كربي وحزني كما كشفت عن رسولك حزنه وكربه في هذا المقام، يا حنان يا منان، يا كثير المعروف، يا دائم الإحسان، يا أرحم الراحمين‏.‏ تم الجزء الأول من «الاختيار لتعليل المختار»‏.‏ ويليه‏:‏ الجزء الثاني، وأوله‏:‏ كتاب البيوع‏.‏